بر الوالدين



الحمد لله وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله خير من وطئ الحصى وسيد ولد آدم أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


والصلاة والسلام على نبينا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي أمرنا بالبر والصلة ونهانا عن القطيعة والعقوق, وجعل للوالدين على ولهما حقا من أوكد الحقوق, وتوعد كل متعد لهذه الحقوق بنار معدة لأهل العقوق,.
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمدا الصادق المصدوق.
اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى كل آله وأصحابه وأتباعه المؤدين الحقوق ثم أما بعد
فيقول الله تعالى في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين:( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما*واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)
أيها الإخوة المسلمون:
إن بر الوالدين والإحسان إليهما واجب شرعيأوجبه اللهI على كل خلقه, وهو ليس مجرد كلمة تترد على الألسنة دون أن يكون لها من التطبيق نصيب, بل إنه سلوك لابد أن يظهر أثره في أقوال الإنسان وأفعاله فهناك آداب قوليه وآداب فعليه يلتزم بهما الابن تجاه والديه على حد سواء.
كما أنه ليس مقصوراً على ما يقوم به الإبن من بر لوالديه وإحسان إليهما حال حياتهما فقط بل إنه يمتد إلى ما بعد وفاتهما وبالجملة يمكننا أن نقول أن بر الوالدين لا ينتهي بموت الوالدين أو أحدهما وإنما ينتهي بموت الإبن نفسه.
أخرج الأمام أحمد في مسنده والطبراني في أوسط عن أبي أسيد و كان بدريا : قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فجاء رجل من الأنصار فقال يا رسول الله هل بقي من بر والدي في موتهما شيء أبرهما به ؟ فقال : نعم الصلاة عليهما و الاستغفار لهما وإنفاد عهدهما و إكرام صديقهما و صلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقى عليك.
كما أنه ليس مقصوراً على الوالدين فقط بل إنه يمتد ليشمل أيضاً برهما وبر أهل مودتهما أي أصدقائهما وأقاربهما.
أخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)
بل إن الإنسان الذي يبر أهل ود أبيه يكون قد وصل إلى درجة عالية من درجات البر الواجب عليه تجاه والديه
كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان مهما فعل مع والديه ومهما أحسن إليهما فلن يستطيع أن يفي بشيء من حقهما
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ميمون بن أبي شبيبة قال قيل لمعاذ بن جبل ما حق الوالد على الولد قال لو خرجت من أهلك ومالك ما أديت حقهما
أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبى بردة قال: شهد بن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره يقول إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال يا بن عمر أتراني جزيتها قال لا ولا بزفرة واحدة.
أما الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلملا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه)
لا دلالة فيه على أن الإنسان الذي يفعل ذلك يكون قد أدي الإحسان الواجب عليه تجاه والده أو هما معا, لأنه قد يفعل بعض الناس ذلك مع والديهم ثم يعقونهم بعد ذلك فهل يكون هؤلاء قد أدوا حقهما؟
وإنما يحمل هذا الحديث على حث الأبناء الذين كتب الله على آبائهم الرق وكان ذلك شائعا في الماضي, فحثهم النبي على الإسراع إلى شرائهم وإعتاقهم وأنهم بذلك يكونوا قد فعلوا شيئا مما يجب عليهم لوالديهم.
لماذا لايستطيع الإنسان أن يفي بما يجب عليه من حقوق والديه؟
لأن الإنسان الملتزم بحقوق والديه تجده في آداء هذه الحقوق لا يؤديه بنفس ما كان والديه يؤديان حقوقه, فالابن يؤدي حق والديه وكأنها مفروضة عليه, يؤديه وكأنه يريد أن يؤديها بأي حال من الأحوال, وكأنها ثقل عليه يريد أن يتخلص منه, نعم هذا هو الواقع المر الذي نعيشه الابن يؤدي حقوق والديه عن كره وهو يتمنى وفاتهما, بينما الوالدين يؤديان حقوق أبنائهما بمنتهي الرضا والسعادة وهما يتمنيان طول عمرهم.
لهذا فإن أي إنسان لن يستطيع أن يفي بما يجب عليه تجاه والديه مهما قال ومهما فعل
وقد خص الله سبحانه وتعالي بر الوالدين من بين أعمال البر بأن جعله في المرتبة الثانية في الأفضلية بعد الصلاة وقبل الجهاد في سبيل الله, أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال:سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله ؟ قال ( الصلاة على وقتها ) . قال ثم أي ؟ قال ( ثم بر الوالدين ) . قال ثم أي ؟ قال ( الجهاد في سبيل الله) . قال حدثني بهن ولو استزدته لزادني
وفي روايةعند الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود قال قلت:يا نبي الله أي الأعمال أقرب إلى الجنة ؟ قال الصلاة على مواقيتها قلت وماذا يا نبي الله ؟ قال بر الوالدين قلت وماذا يا نبي الله ؟ قال الجهاد في سبيل الله.
نعم أيها الإخوة لقد كان النبي يقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل اللهأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أُمامة أن رسول الله لما أذن للاه له بفتح خيبر قال : تجهزوا إلى هذه القرية الظالم أهلها فإن الله فاتحها عليكم إن شاء الله ولا يخرجن معي ضعيف ولا مضعف فانطلق أبو هريرة إلى أمه فقال : جهزيني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالجهاز للغزو فقالت : تنطلق وتتركني وقد علمت أني ما أدخل المرفق إلا وأنت معي ؟ فقال : ما كنت لأتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت ثديها فناشدته بما رضع من لبنها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم سرا فأخبرته فقال : انطلقي فقد كفيت فأتاه أبو هريرة فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قد أرى إعراضك عني لا أرى ذلك إلا لشيء بلغك ؟ قال : أنت الذي تناشدك أمك وأخرجت ثديها تناشدك بما رضعت من لبنها فلم تفعل أيحسب أحدكم إذا كان عند أبويه أو أحدهما أن ليس في سبيل الله ؟ بلى هو في سبيل الله إذا برهما وأدى حقهما قال أبو هريرة : لقد مكثت بعد ذلك سنتين ما أغزو حتى ماتت
كما خصه اللهI حين تحدث عنه في كتابه بكثير من الصيغ التي تفيد الأمر من هذه الصيغ صيغة القضاء في قوله تعالى : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه }
فبالرغم من أن القضاء في اللغة له معان كثيرة منها:
فالقضاء بمعنى الخلق كقوله تعالى : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } يعني خلقهن والقضاء بمعنى الحكم كقوله تعالى : { فاقض ما أنت قاض } يعني احكم ما أنت تحكم والقضاء بمعنى الفراغ كقوله : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } أي فرغ منه ومنه قوله تعالى { فإذا قضيتم مناسككم } وقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة } والقضاء بمعنى الإرادة كقوله تعالى : { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } والقضاء بمعنى العهد كقوله تعالى : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر)
إلا أنّه في هذه الآية بمعنى الأمر فقوله { وقضى } أي أمر وألزم وأوجب قال ابن عباس والحسن وقتادة : وليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر
والمعنى أمركم الله ألا تعبدوا إلا إياه وأمركم بالوالدين إحسانا أي: تحسنوا إليهما وتبروهما
كما جاءت الإحسان إلى الوالدين بصيغة الأمر أيضاً في قوله في سورة العنكبوت:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
وفي سورة لقمان : {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}
وفي سورة الأحقاف : {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا... }
ومعنى قوله ووصينا كما يقول علماء التفسير أمرنا
يقول الإمام الطبري : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ أي وأمرنا الإنسان ببر والديه
والسؤال الآن : لماذا جاء الإحسان إلى الوالدين بصيغة الأمر؟
يقول صاحب التفسير الوسيط: قال بعض العلماء:" وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب وهو الإحسان إلى الوالدين, ولم تذكر بأسلوب النهي سموا بالإنسان أن تظن به الإساءة إلى الوالدين وكأن الإساءة إليهما ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهي عنها)
ومعنى هذا أنّ الإحسان إلى الوالدين وبر الوالدين بصيغة الأمر تغليباً لإحسان الظن بالإنسان عن إساءته وكأن الأصل هو بر الوالدين وليس العقوق ,, الأصل عند من ؟ الأصل عند أصحاب الفطرة السليمة, والتدين الكامل.
أما أهل العقوق فهم شواذ عن تلك القاعدة لأنهم انحرفوا عن أصل الفطرة, التي توجب على كل إنسان بر والديه والإحسان إليهما.
كما خص الله سبحانه وتعالي من ذلك البر جملة من الأحوال منها:
الحالة الأولى: خص الله سبحانه وتعالى بر الوالدين والإحسان إليهما حالة الكبر بمزيد من الاهتمام حيث أفردها بالذكر في قوله: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا )
وقد ذكر أهل العلم جملة من الأسباب لاختصاص هذه الحالة بالذكر عن سائر الأحوال الأُخرى من هذه الأسباب:
ومن ضمن ما قالوا: لأنهما في حالة يكونا أحوج إلى برهما والإحسان إليهما من سائر الأحوال الأُخرى لتغير الحال عليهما من القوة إلى الضعف ومن الصغر إلى الكبر
فألزمنا الله مراعاتهما في تلك الحالة أكثر مما ألزمه من قبل لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا وعبئاً على أبنائهما فيحتاجان من الأبناء في الكبر ما كان يحتاج الأبناء منهما في الصغر, حتى لا يتضجر الابن أو يستثقل ذلك إذا علم أن ما يقدمه لهما في تلك الحالة على مضض كانا يقدمانه له في الصغر عن رضا وسرور
الحالة الثانية خص الأم بثلاث أرباع ما للأب من البر:
أخرج البخاري في الأدب المفرد عن المقدام بن معد يكرب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله يوصيكم بأُمهاتكم ثم يوصيكم بأُمهاتكم ثم يوصيكم بآبائكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب)
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال أمك قال ثم من ؟ قال ثم أمك قال ثم من ؟ قال ثم أمك قال ثم من ؟ قال ثم أبوك
وقد استدل العلماء بهذا الحديث على جملة من الأحكام:
1-استدل الإمام النووي بهذا الحديث على أن الاُم في البر مقدمة في الرتبة على الأب.
2-واستدل الإمام ابن بطال به على أنّ للأُم ثلاثة أرباع ما للأب من البر فقال:( مقتضاه–أي هذا الحديث-أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر قال وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية)
3-واستدل الإمام القرطبي به على أنه لو تعارض حق الأب مع حق الأم في آن واحد قدمت الأم فقال:( المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة)



لاتنسوني من صالح دعاكم


والحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات,,

Blogger تعليقات
Disqus تعليقات
اختر نظام التعليقات الذي تفضله